أوغسطينوس: الفيلسوف الذي تجاوز حدود الجغرافيا والتاريخ
كثيرًا ما يُثار الجدل في الأوساط الثقافية حول الانتماء الجغرافي والتاريخي للقديس أوغسطينوس، أحد أبرز أعمدة الفكر المسيحي في العصور القديمة. ويعود أصل هذا الجدل إلى المكان الذي وُلد فيه أوغسطينوس، مدينة طاغست، المعروفة اليوم بسوق أهراس في الجزائر. ومع أن الإشارة إلى أصله الجزائري تبدو بديهية من الناحية الجغرافية، إلا أن تلك النظرة تفتقر للدقة التاريخية، إذ تقحم مفاهيم وهويات عصرية على عالم قديم لم يكن يعرف الدولة الوطنية بحدودها أو مفاهيمها الحاضرة.
إن القديس أوغسطينوس عاش في زمن كانت فيه المنطقة جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، وكان يُعرَّف الناس خلال تلك الفترة بانتماءاتهم للمدن والإمبراطوريات، وليس للأوطان بالمعنى القومي الحديث. فقد كان أوغسطينوس ينتمي إلى ما يُعرف بالحضارة القرطاجية والرومانية، حيث تلقى تعليمه وأنتج أفكاره الفلسفية واللاهوتية التي تركت أثرًا بالغًا على الفكر الغربي.
المثير أن أوغسطينوس رغم مشواره الطويل في خدمة الكنيسة وتطوير الفكر المسيحي، بقي دائم الاتصال بجذوره المتوسطية، لكنه لم يعرف نفسه يومًا بالانتماء الوطني الضيق، نظرًا لأن هذا المفهوم كان غائبًا عن وعي البشرية وقتها. وانطلاقًا من هنا، فإن حصر شخصية أوغسطينوس ضمن هوية جزائرية أو حتى شمال أفريقية فقط، يعد تقزيمًا لإسهاماته ولمدى تأثيره على الحضارات المجاورة.
إن تناول سيرة أوغسطينوس يجب أن يتم بحذر ووعي تاريخي، حتى لا نقع في مغالطات إسقاط الهويات الحديثة على شخصيات عاشت في سياقات مغايرة كلية. ويبقى أوغسطينوس مثالاً على المثقف الذي تعبر رؤيته وحدود مكانه وزمانه، ليصبح شخصية عالمية ذات تأثير يمتد عبر القرون والثقافات.
