أوغسطينوس بين الجغرافيا والتاريخ: قراءة في هوية فيلسوف شمال إفريقيا
في العقود الأخيرة، برزت نقاشات حادة بشأن الانتماء الحقيقي للقديس أوغسطينوس، أحد أبرز المفكرين في تاريخ المسيحية، والذي وُلد في بلدة طاغست التي تُعرف اليوم بسوق أهراس، شرق الجزائر. ومع تزايد الاهتمام بالموروث الثقافي والحضاري للمنطقة، سارع البعض إلى نسب أوغسطينوس إلى الهوية الجزائرية الحديثة بحكم الموقع الجغرافي لموطنه الأصلي.
إلا أن هذا الطرح يصطدم بإشكالات تاريخية عميقة. فعند العودة إلى عصر أوغسطينوس في القرن الرابع الميلادي، لم تكن هناك خرائط لبلدان على النحو الذي نعرفه اليوم، ولم تكن الجزائر أو تونس أو غيرها من دول المغرب العربي قد تأسست بعد. كان شمال إفريقيا حينها جزءًا من الإمبراطورية الرومانية، وكانت طاغست واحدة من مدن مقاطعة نوميديا الرومانية، بينما كانت قرطاج العاصمة الروحية والثقافية لتلك المنطقة.
لقد تلقى أوغسطينوس علومه ودرس الفلسفة والبلاغة في قرطاج، وعاش جزءًا كبيرًا من حياته هناك قبل أن يصبح أسقفًا لمدينة هيبون (عنابة حاليًا). وقد تأثر إنتاجه الفكري بجذوره الإفريقية وانفتاحه على الثقافات اليونانية والرومانية وقيم المسيحية الأولى، مما أتاح له أن يكون جسرًا بين حضارات عدة.
إذا، مسألة اختزال هوية أوغسطينوس في توصيف “الجزائري”، وإن كانت منطقية وفق الجغرافيا المعاصرة، إلا أنها تتجاهل الديناميكيات التاريخية والاجتماعية التي شكّلت شخصيته وساهمت في بناء مجده الفكري. فالرجل هو نتاج بيئة متوسطية متعددة الثقافات، تنتمي إلى فسيفساء حضارية أغنى من أن تُحصر في هوية حديثة واحدة.
يعكس الجدل الدائر حول انتمائه رغبة الشعوب في البحث عن جذور رموزها الحضارية، لكنه في الوقت نفسه يسلط الضوء على ضرورة قراءة التاريخ بعين نقدية تأخذ في الاعتبار سياق العصر وظروفه بدلاً من إسقاط مفاهيم الدول القومية المعاصرة على عصور سابقة.
يظل أوغسطينوس أحد أعلام الفكر الإنساني ورمزًا لإرث شمال إفريقيا الغني، دون أن يكون حكراً على فئة أو مكان بعينه.
