النكتة السياسية: سلاح المقهورين في وجه السلطة
في تسعينات القرن الماضي، كانت الحياة السياسية والاجتماعية في مصر تغلي تحت سطح هادئ ظاهريًا. وسط القيود على حرية التعبير وتنامي نفوذ الجماعات الإسلامية، كان المواطن المصري يبتكر وسائل متنوعة للتعبير عما يشعر به من قهر واضطهاد، ولعل أبرزها النكتة السياسية، التي أصبحت وسيلة مبدعة لإفراغ الضغوط والتعليق على الواقع دون مواجهة مباشرة مع السلطة.
خلال أحد تحقيقاتي الصحفية في القاهرة في تلك الفترة، دفعتني قدماي إلى شارع القصر العيني، حيث يقع مقر إحدى أعرق المجلات المصرية، مجلة روز اليوسف. كان الموعد مع رئيس تحريرها حينها، الصحفي البارز عادل حمودة، أحد أكثر الكتاب إثارة للجدل على الساحة الإعلامية، وواحداً من أصحاب الأقلام الجريئة التي توازن بين رغبة الناس في قول الحقيقة ومتطلبات البقاء ضمن حدود “المسموح”.
في حوارنا، أكد حمودة أن النكتة السياسية ليست مجرد وسيلة للضحك أو الترفيه، بل هي لغة احتجاج وصياغة لوعي جمعي، تسمح للفرد بأن يكون جزءًا من تيار النقد الشعبي للنظام دون أن يقع تحت طائلة العقاب القانوني المباشر. وقال إن النكتة تنتشر في كل مكان: في المقاهي، وأروقة الجامعة، وحتى داخل المؤسسات الرسمية نفسها، أحياناً يتندر الموظفون على القرارات الحكومية أو الأوضاع المعيشية، ويدرك الجميع أن حديثهم ما هو إلا تخفيف عن واقع ثقيل.
وأبرز حمودة أن الصحافة المصرية كانت تلعب دوراً محورياً في رصد هذه الروح الساخرة، ونقل صوت المواطن المقهور بأساليب ذكية، إما عبر الرسوم الكاريكاتورية أو الأعمدة الساخرة التي تستغل الرمزية والفكاهة، وتصل إلى المتلقي دون أن تقع فريسة للرقابة الحكومية.
هكذا، تبيّن أن النكتة السياسية في تسعينات مصر تحولت فعلاً إلى سلاح فعّال بيد من لا يستطيع حمل السلاح الحقيقي؛ هي فرصة للمقاومة الناعمة، وفسحة للإبداع الشعبي في زمن ضاق فيه صدر الحرية. وبين الصحفيين والجماهير، بقيت النكتة لغة مشتركة للبوح والأمل، ونافذة للهروب من الضغوط اليومية. وبذلك، ضمنت لنفسها مكانة راسخة في الذاكرة الجمعية للمجتمع المصري.
